فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{يا أيها المدثر} أي المتدثرُ هو لابسُ الدثارِ وهو ما يُلبسُ فوق الشِّعارِ الّذي يلي الجسد قيل: هي أولُ سورةٍ نزلتْ. رُوي عنْ جابرٍ رضي الله عنْهُ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «كُنت على جبلِ حراءٍ فنوديتُ يا محمدُ إنّك رسولُ الله فنظرتُ عنْ يميني ويسارِي فلمْ أر شيئا فنظرتُ فوقِي فإذا بهِ قاعدٌ على عرشٍ بين السماءِ والأرضِ يعني الملك الّذي ناداهُ فرعبتُ ورجعتُ إلى خديجة فقلتُ: دثرونِي فنزل جبريلُ وقال: {يا أيها المدثر}» عنِ الزهري أنّ أول ما نزل سورةُ اقرأ إلى قوله تعالى: {ما لمْ يعْلمْ} فحزن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلو شواهق الجبالِ فأتاهُ جبريلُ عليه السلام وقال: إنك نبيُّ الله فرجِع إلى خديجة فقال: «دثرونِي وصُبُّوا عليّ ماء باردا» فنزل جبريلُ فقال: {يا أيها المدثر} وقيل: سمع منْ قريشٍ ما كرههُ فاغتمّ فتغطّى بثوبِه متفكرا كما يفعلُ المغمومُ فأُمِر أنْ لا يدع إنذارهم وإنْ أسمعُوه وآذوه. وقيل: كان نائما متدثرا. وقيل: المرادُ المتدثرُ بلباسِ النبوةِ والمعارفِ الإلهيةِ. وقرئ {المُدثّرُ} على صيغةِ اسمِ المفعولِ منْ دثرهُ أي الّذي دثر هذا الأمر العظيم وعصب به وفي حرفِ أبي المنذرِ يا أيها المتدثرُ على الأصْلِ {قُمِ} أي من مضجعك أو قُمْ قيام عزْمٍ وتصميمٍ {فأنذِرْ} أي افعلِ الإنذار وأحْدِثْهُ وقيل: أنذرْ قومك كقوله تعالى: {وأنذِرْ عشِيرتك الاقربين} أو جميع النّاسِ حسبما ينبئُ عنْهُ قوله تعالى: {وما أرسلناك إِلاّ كافّة لّلنّاسِ بشِيرا ونذِيرا} {وربّك فكبّرْ} واختصّ ربّك بالتكبيرِ وهو وصْفُهُ تعالى بالكبرياءِ اعتقادا وقولا ويُروى أنّه لمّا قال رسولُ الله: «الله أكبرُ» فكبرتْ خديجةُ وفرحتُ وأيقنتْ أنّه الوحيُ وقدْ يحملُ على تكبيرِ الصّلاةِ والفاءُ لمعنى الشرطِ كأنّه قيل: ما كان أيْ أيُّ شيءٍ حدث فلا تدعُ تكبيرهُ أو للدلالةِ على أنّ المقصود الأولى من الأمرِ بالقيامِ أنْ يكبر ربّه وينزههُ من الشركِ فإنّ أول ما يجبُ معرفةُ الصانعِ جلّ جلالُه ثم تنزيهُه عمّا لا يليقُ بجنابهِ.
{وثِيابك فطهّرْ} مما ليس بطاهرٍ فإنّه واجبٌ في الصّلاةِ وأولى وأحبُّ في غيرِها وذلك بصيانتها وحفظها عن النجاساتِ وغسلِها بعد تلطخِها وبتقصيرها أيضا فإنّ طولها يؤدي إلى جرِّ الذيولِ على القاذوراتِ وهو أولُ ما أمر بهِ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ منْ رفضِ العاداتِ المذمومةِ وقيل: هو أمرٌ بتطهيرِ النفسِ مما يستقذرُ من الأفعالِ ويُستهجنُ من الأحوالِ يقال: فلانُ طاهرُ الذيلِ والأردانِ إذا وصفُوه بالنقاءِ من المعايبِ ومدانسِ الأخلاق.
{والرجز فاهجر} أي واهجُر العذاب بالثباتِ على هجْرِ ما يُؤدي إليه من المآثمِ وقرئ بكسرِ الراءِ وهُما لُغتانِ كالذُّكرِ والذِّكرِ {ولا تمْنُن تسْتكْثِرُ} ولا تُعطِ مُستكثرا أي رائيا لِما تعطيهِ كثيرا أو طالبا للكثيرِ على أنّه نهيٌ عنْ الاستغزارِ وهو أنْ يهب شيئا وهو يطمعُ أنْ يتعوض من الموهوبِ لهُ أكثر ممّا أعطاهُ وهو جائزٌ ومنْهُ الحديث: «المستغزرُ يثابُ من هبتِه» فالنهيُ إمّا للتحريمِ وهو خاصٌّ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم لأنّ الله تعالى اختار له أشرف الأخلاقِ وأحسن الآدابِ أو للتنزيهِ للكُلِّ تستكثرْ بالسكونِ اعتبارا بحالِ الوقفِ أو إبدالا منْ تمنن كأنّه قيل: ولا تمنُنْ ولا تستكثرْ على أنّه من المنِّ الّذي في قوله تعالى: {منّا ولا أذى} منْ يمنّ بِما يُعطي يستكثرُه ويعيدُ بِه وقرئ بالنصبِ بإضمارِ أنْ مع إبقاءِ عملِها كقول منْ قال:
ألا أيُهذا الزّاجِرِي أحْضُر الوغى

وقدْ قرئ بإثباتِها ويجوزُ في قراءة الرفعِ أنْ يحذف أنْ ويبطل عملُها كما يُروى أحضرُ الوغى بالرفعِ {ولِربّك} أي لوجههِ تعالى أو لأمرِه {فاصبر} فاسعمل الصبر وقيل: على أذيةِ المشركين وقيل: على أداءِ الفرائضِ.
{فإِذا نُقِر في الناقور} أي نفخ في الصُّورِ وهو فاعل من النقر بمعنى التصويت وأصله القرع الذي هو سببُ الصّوتِ والفاءُ للسببيةِ كأنّه قيل: اصبرْ على أذاهُم فبين أيديهِم يومٌ هائلٌ يلقون فيهِ عاقية أذاهُم وتلقى عاقبة صبرِك عليهِ والعاملُ فِي إذا ما دلّ عليهِ قوله تعالى: {فذلِك يوْمئِذٍ يوْمٌ عسِيرٌ على الكافرين} فإنّ معناهُ عسُر الأمرُ على الكافرين وذلك إشارةٌ إلى وقتِ النقرِ وما فيهِ منْ معْنى البعدِ مع قُربِ العهدِ بالمشارِ إليهِ للإيذانِ ببعدِ منزلتِه في الهولِ والفظاعةِ ومحلُه الرفعُ على الابتداءِ و{يومئذٍ} بدلٌ منْهُ مبنيٌّ على الفتحِ لإضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ والخبرُ {يومٌ عسيرٌ} وقيل: {يومئذ} ٍ ظرفٌ للخبرِ إذِ التقديرُ وذلك وقتُ وقوعِ {يومٍ عسيرٍ} وعلى متعلقةٌ بـ: {عسيرٌ} وقيل: بمحذوفٍ هو صفةٌ لـ: {عسيرٌ} أو حالٌ من المستكنِّ فيهِ وقوله تعالى: {غيْرُ يسِيرٍ} تأكيدٌ لعُسرِهِ عليهمْ مشعرٌ بيُسرهِ على المؤمنين واختلف في أنّ المراد بِه يومُ النفخةِ الأولى أو الثانيةِ، والحقُّ أنّها الثانيةُ، إذْ هي التي يختصُّ عسرُها بالكافرين وأما النفخةُ الأولى فحكمُها الذي هو الإصعاقُ يعمُّ البرّ والفاجر على أنّها مختصةٌ بمنْ كان حيا عند وقوعِها وقد جاء في الأخبار أنّ في الصورِ ثقبا بعددِ الأرواحِ كلِّها وأنّها تجمعُ في تلك الثقوبِ في النفخةِ الثانيةِ فتخرجُ عند النفخِ منْ كُلِّ ثقبةٍ روحٌ إلى الجسدِ الِّذي نزعت مِنْهُ فيعودُ الجسدُ حيا بإذنِ الله تعالى.
{ذرْنِى ومنْ خلقْتُ وحِيدا} حالٌ إمّا من الياءِ أيْ ذرني وحديِ معهُ فإنِّي أكفيكهُ في الانتقامِ منْهُ أو من التاءِ أي خلقتُهُ وحْدِي لمْ يُشركني فِي خلقِه أحدٌ أو من العائدِ المحذوفِ أيْ ومنْ خلقتُه وحيدا فريدا لا مال لهُ ولا ولدٌ، وقيل: نزلت في الوليدِ بنِ المغيرةِ المخزومي وكان يلقبُ في قومِه الوحيد فهو تهكمٌ به وبلقبِه وصرفٌ لهُ عنْ الغرضِ الذي يؤمونهُ من مدحِه إلى جهةِ ذمهِ بكونهِ وحيدا من المالِ والولدِ أو وحيدا من أبيهِ لأنّه كان زنيما كما مرّ أو وحيدا في الشّرارةِ {وجعلْتُ لهُ مالا مّمْدُودا} مبسوطا كثيرا أو ممدا بالنماءِ من مدّ النهرٌ ومدّهُ نهرٌ آخرُ، قيل: كان لهُ الضرعُ والزرعُ والتجارةُ. وعنِ ابنِ عبّاس رضي الله عنْهما هو ما كان له بين مكة والطائفِ من صنوفِ الأموالِ، وقيل: كان لهُ بالطائفِ بستانٌ لا ينقطعُ ثمارُهُ صيفا وشتاء. وقال ابن عباسٍ ومجاهدٌ وسعيدُ بنُ جُبيرٍ كان لهُ ألفُ دينارٍ وقال قتادةُ: ستةُ آلافِ دينار، وقال سفيان الثوري: أربعة آلاف دينار، وقال الثوريُّ أيضا: ألف ألف دينار.
{وبنِين شُهودا} حضورا معهُ بمكة يتمتعُ بمشاهدتِهم لا يفارقونهُ للتصرف في عملٍ أو تجارةٍ لكونِهم مكفيين لوفورِ نعمِهم وكثرةِ خدمِهم أو حضورا فِي الأنديةِ والمحاقلِ لوجاهتِهم واعتبارِهم قيل: كان له عشرةُ بنين وقيل: ثلاثة عشر وقيل: سبعةٌ كلُّهم رجالٌ الوليدُ بن الوليد وخالدٌ وعمارةٌ وهشامٌ والعاصُ والقيسُ وعبدُ شمسٍ أسلم منهْم ثلاثةٌ خالدٌ وهشامٌ وعمارةُ {ومهّدتُّ لهُ تمْهِيدا} وبسطتُ لهُ الرياسة والجاه العريضُ حتّى لقب ريحانة قريشٍ {ثُمّ يطْمعُ أنْ أزِيد} على ما أوتيهِ وهو استبعادٌ واستنكارٌ لطمِعه وحرصِه إما لأنهُ لا مزيد على ما أوتي سعة وكثرة أو لأنّه منافٍ لما هو عليهِ منْ كُفرانِ النعمِ ومعاندةِ المنعمِ وقيل: إنّه كان يقول إن كان محمدٌ صادقا فما خُلقتْ الجنةُ إِلاّ لِي.
{كلّا إِنّهُ كان لِآياتِنا عنِيدا (16)}
{كلاّ} ردعٌ وزجرٌ لهُ عنْ طمعه الفارغِ وقطعٌ لرجائه الخائبِ وقوله تعالى: {إِنّهُ كان لآياتنا عنِيدا} تعليلٌ لذلك على وجْه الاستئنافِ التحقيقيِّ فإنّ معاندة آياتِ المنعمِ مع وضوحِها وكفران نعمتِه مع سيوغِها مما يوجبُ حرمانهُ بالكليةِ وإنما أوتي ما أوتي استدارجا قيل: ما زال بعد نزولِ هذهِ الآيةِ في نقصانٍ منْ مالِه حتّى هلك {سأُرْهِقُهُ صعُودا} سأغشيهِ بدل ما يطمُعه من الزيادةِ أو الجنةِ عقبة شاقة المصعدِ وهو مثلٌ لما يلْقى من العذابِ الصعبِ الذّي لا يطاقُ وعنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «يكلفُ أنْ يصعد عقبة في النارِ كلما وضع يدهُ عليها ذابتْ فإذا رفعها عادتْ وإذا وضع رجلُه ذابتْ فإذا رفعها عادتْ» وعنْهُ عليهِ الصّلاةُ والسلام: «الصّعودُ جبلٌ منْ نارٍ يصعدُ فيهِ سبعين خربفا ثمّ يهوي فيهِ كذلك أبدا» {إِنّهُ فكّر وقدّر} تعليلٌ للوعيدِ واستحقاقِه لهُ أو بيانٌ لعناده لآياته تعالى أيْ فكرّ ماذا يقول في شأنِ القرآن وقدر فِي نفسِه ما يقوله: {فقُتِل كيْف قدّر} تعجيبٌ منْ تقديرِه وإصابتِه فيهِ الغرض الذي كان ينتحيهِ قريشٌ قاتلهم الله أو ثناءٌ عليهِ بطريقِ الاستهزاءِ أو حكايةٌ لما كررُوه من قولهم قتل كيف قدر تهكما بِهم وبإعجابِهم بتقديرِه واستعظامِهم لقوله معنْى قولهم قتلهُ الله ما أشجعهُ أو أخزاهُ الله ما أشعرهُ الإشعارُ بأنّه قد بلغ من الشجاعةِ والشعرِ مبلغا حقيقيا بأنْ يدعو عليهِ حاسدُهُ بذلك. رُوي أنّ الوليد قال لبني مخزومٍ (والله لقد سمعتُ من محمدٍ آنِفا كلاما ما هو منْ كلامِ الإنسِ ولا منْ كلامِ الجنِّ إنّ لهُ لحلأوة وإنّ عليهِ لطلأوة وإنّ أعلاهُ لمثمرٌ وإنّ أسفلهُ لمغدِقٌ وإنّه يعلو ولا يُعلى) فقالتْ قريشٌ صبأ والله الوليدُ والله لتصبأنّ قريشٌ كُلُّهم فقال ابْنُ أخيهِ أبو جهلٍ أنا أكفيكمُوهُ فقعد عندهُ حزينا وكلّمهُ بما أحماهُ فقام فأتاهُم ققال تزعمون أنّ محمدا مجنونٌ فهل رأيتمُوه يخنقُ وتقولون إنه كاهنٌ فهلْ رأيتمُوه يتكهنُ وتزعمون أنه شاعرٌ فهل رأيتمُوه يتعاطى شِعرا قطُّ وتزعمون أنه كذابٌ فهلْ جربتُم عليهِ شيئا من الكذبِ فقالوا في كُلِّ ذلك اللهمّ لا ثمّ قالوا فما هو ففكّر فقال ما هو إلا ساحرٌ أما رأيتمُوه يفرقُ بين الرجلِ وأهلِه وولدِه ومواليهِ وما الذي يقوله إلا سحرٌ يأثرُهُ عنْ أهلِ بابل فارتجّ النادِي فرحا وتفرقُوا معجبين بقوله متعجبين منْهُ.
{ثُمّ قُتِل كيْف قدّر}
تكريرٌ للمبالغةِ وثمّ للدلالةِ على أنّ الثانية أبلغُ من الأولى وفيما بعدُ على أصلِها منْ التراخِي الزمانيِّ.
{ثُمّ نظر} أي في القرآن، مرة بعد مرةٍ {ثُمّ عبس} قطّب وجههُ لمّا لم يجدْ فيهِ مطعنا ولمْ يدرِ ماذا يقول وقيل: نظر في وجوهِ النّاسِ ثم قطّب وجههُ وقيل: نظر إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ثم قطّب في وجهِهِ {وبسر} اتباعٌ لعبس {ثُمّ أدْبر} عنِ الحقِّ أو عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم {واستكبر} عن اتباعِه {فقال إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثرُ} أيْ يُروى ويُتعلمُ والفاءُ للدلالةِ على أن هذه الكلمة لمّا خطرتْ بباله تفوه بها من غير تلعثمٍ وتلبثٍ وقوله تعالى: {إِنْ هذا إِلاّ قول البشر} تأكيدٌ لما قبلهُ ولذلك أُخلي عنِ العاطفِ {سأُصْلِيهِ سقر} بدلٌ منْ {سأُرهقُه صعُودا} {وما أدْراك ما سقرُ} أيْ أيُّ شيءٍ أعلمك ما سقرُ على أنّ {ما} الأولى مبتدأٌ و{أدراك} خبرُه و{ما} الثانيةُ خبرٌ لأنها المفيدةُ لِما قُصد إفادتُه من التهويل والتفظيعِ و{سقرُ} مبتدأٌ أيْ أيُّ شيءٍ هي في وصفِها لِما مرّ مرارا منْ أنّ ما قدْ يطلبُ بها الوصفُ وإنْ كان الغالبُ أنْ يطلب بها الاسمُ والحقيقةُ وقوله تعالى: {لا تُبْقِى ولا تذرُ} بيانٌ لوصفِها وحالِها وإنجازٌ للوعدِ أيْ لا تُبقي شيئا يُلقى فيها إلا أهلكتْهُ وإذا هلك لم تذرْهُ هالكا حتّى يعاد أو لا تُبقي على شيءٍ ولا تدعهُ من الهلاكِ بلْ كلُّ ما يطرحُ فيها هالكٌ لا محالة. {لواحةٌ لّلْبشرِ} مُغيِّرةٌ لأعالي الجلدِ مسوّدةٌ لها قيل تلفحُ الجلد لفحة فتدعُه أشدّ سوادا من الليلِ وقيل: تلوحُ للناسِ كقوله تعالى: {ثُمّ لتروُنّها عيْن اليقين} وقرئ {لواحة} بالنصبِ على الاختصاصِ للتهويلِ.
{عليْها تِسْعة عشر} أي ملكا أو صِنْفا أو صفا أو نقيبا من الملائكةِ يلون أمرها ويتسلطون على أهلِها وقرئ بسكونِ عينِ عشْر حذرا من توالِي الحركاتِ فيما هو في حكم اسمٍ واحدٍ وقرئ {تسعةُ أعْشُرٍ} جمعُ عشيرٍ مثلُ يمينٍ وأيْمُنٍ. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{يا أيُّها الْمُدّثِّرُ (1) قُمْ فأنْذِرْ (2)}
قال الواحدي: قال المفسرون: لما بدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي أتاه جبريل، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرير بين السماء والأرض كالنور المتلأليء، ففزع ووقع مغشيا عليه، فلما أفاق دخل على خديجة، ودعا بماء، فصبه عليه، وقال: «دثروني دثروني»، فدثروه بقطيفة، فقال: {يأيُّها المدثر قُمْ فأنذِرْ} ومعنى {يأيُّها المدثر}: يا أيها الذي قد تدثر بثيابه، أي: تغشى بها، وأصله المتدثر، فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما.
وقد قرأ الجمهور بالإدغام، وقرأ أبي: {المتدثر} على الأصل، والدثار: هو ما يلبس فوق الشعار، والشعار: هو الذي يلي الجسد، وقال عكرمة: المعنى: يا أيها المدثر بالنبوّة وأثقالها.
قال ابن العربي: وهذا مجاز بعيد لأنه لم يكن نبيا إذ ذاك {قُمْ فأنذِرْ} أي: انهض فخوّف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يسلموا، أو قم من مضجعك، أو قم قيام عزم وتصميم.
وقيل: الإنذار هنا هو إعلامهم بنبوّته.
وقيل: إعلامهم بالتوحيد.
وقال الفراء: المعنى قم فصلّ، وأمر بالصلاة {وربّك فكبّرْ} أي: واختص سيدك ومالكك ومصلح أمورك بالتكبير، وهو وصفه سبحانه بالكبرياء والعظمة، وأنه أكبر من أن يكون له شريك كما يعتقده الكفار، وأعظم من أن يكون له صاحبة أو ولد.
قال ابن العربي: المراد به تكبير التقديس والتنزيه بخلع الأضداد والأنداد والأصنام، ولا يتخذ وليا غيره ولا يعبد سواه، ولا يرى لغيره فعلا إلاّ له ولا نعمة إلاّ منه.
قال الزجاج: إن الفاء في: {فكبر} دخلت على معنى الجزاء، كما دخلت في: {فأنذر}.
وقال ابن جني: هو كقولك: زيدا فاضرب أي: زيدا اضرب، فالفاء زائدة.
{وثِيابك فطهّرْ} المراد بها الثياب الملبوسة على ما هو المعنى اللغوي، أمره الله سبحانه بتطهير ثيابه، وحفظها عن النجاسات، وإزالة ما وقع فيها منها.
وقيل: المراد بالثياب العمل.
وقيل: القلب.
وقيل: النفس.
وقيل: الجسم.
وقيل: الأهل.
وقيل: الدين.
وقيل: الأخلاق.
قال مجاهد، وابن زيد، وأبو رزين، أي: عملك فأصلح.
وقال قتادة: نفسك فطهّر من الذنب، والثياب عبارة عن النفس.
وقال سعيد بن جبير: قلبك فطهّر، ومن هذا قول امرئ القيس:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل

وقال عكرمة: المعنى البسها على غير غدر وغير فجرة.
وقال: أما سمعت قول الشاعر:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ** لبست ولا من غدرة أتقنع

والشاعر هو غيلان بن سلمة الثقفي، ومن إطلاق الثياب على النفس قول عنترة:
فشككت بالرمح الطويل ثيابه ** ليس الكريم على القنا بمحرم

وقول الآخر:
ثياب بني عوف طهارى نقية

وقال الحسن، والقرظي: إن المعنى، وأخلاقك فطهّر؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه، ومنه قول الشاعر:
ويحيى لا يلام بسوء خلق ** ويحيى طاهر الأثواب حر

وقال الزجاج: المعنى، وثيابك فقصر؛ لأن تقصير الثوب أبعد من النجاسات إذا انجرّ على الأرض، وبه قال طأوس، والأول أولى؛ لأنه المعنى الحقيقي.
وليس في استعمال الثياب مجاز عن غيرها لعلاقة مع قرينة ما يدلّ على أنه المراد عند الإطلاق، وليس في مثل هذا الأصل: أعني الحمل على الحقيقة عند الإطلاق خلاف، وفي الآية دليل على وجوب طهارة الثياب في الصلاة.
{والرجز فاهجر} الرجز: معناه في اللغة: العذاب، وفيه لغتان: كسر الراء وضمها، وسمي الشرك وعبادة الأوثان رجزا؛ لأنها سبب الرجز.
قرأ الجمهور: {الرجز} بكسر الراء.
وقرأ الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وحفص، وابن محيصن بضمها.
وقال مجاهد، وعكرمة: الرجز: الأوثان، كما في قوله: {فاجتنبوا الرجس مِن الأوثان} [الحج: 30] وبه قال ابن زيد.
وقال إبراهيم النخعي: الرجز المأثم، والهجر الترك.
وقال قتادة: الرجز إساف ونائلة، وهما صنمان كانا عند البيت.
وقال أبو العالية، والربيع، والكسائي: الرجز بالضم الوثن، وبالكسر العذاب.
وقال السديّ: الرجز بضم الراء الوعيد، والأول أولى {ولا تمْنُن تسْتكْثِرُ} قرأ الجمهور: {ولا تمنن} بفك الإدغام، وقرأ الحسن، وأبو اليمان، والأشهب العقيلي بالإدغام، وقرأ الجمهور: {تستكثر} بالرفع على أنه حال، أي: ولا تمنن حال كونك مستكثرا.
وقيل: على حذف أن، والأصل ولا تمنن أن تستكثر، فلما حذفت رفع.
قال الكسائي: فإذا حذف أن رفع الفعل.
وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش: {تستكثر} بالنصب على تقدير أن، وبقاء عملها، ويؤيد هذه القراءة قراءة ابن مسعود: {ولا تمنن أن تستكثر} بزيادة أن.
وقرأ الحسن أيضا، وابن أبي عبلة: {تستكثر} بالجزم على أنه بدل من تمنن، كما في قوله: {يلْق أثاما يضاعف لهُ} [الفرقان: 68، 69]، وقول الشاعر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ** تجد حطبا جزلا ونارا تأججا

أو الجزم لإجراء الوصل مجرى الوقف، كما في قول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ** إثما من الله ولا واغل

بتسكين أشرب.
وقد اعترض على هذه القراءة؛ لأن قوله: {تستكثر} لا يصح أن يكون بدلا من {تمنن}؛ لأن المنّ غير الاستكثار، ولا يصح أن يكون جوابا للنهي.
واختلف السلف في معنى الآية.
فقيل المعنى: لا تمنن على ربك بما تتحمله من أعباء النبوّة كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير.
وقيل: لا تعط عطية تلتمس فيها أفضل منها، قاله عكرمة، وقتادة.
قال الضحاك: هذا حرّمه الله على رسوله؛ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجلّ الأخلاق، وأباحه لأمته.
وقال مجاهد: لا تضعف أن تستكثر من الخير، من قولك حبل متين: إذا كان ضعيفا.
وقال الربيع بن أنس: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير.
وقال ابن كيسان: لا تستكثر عملا فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله عليك إذ جعل لك سبيلا إلى عبادته.
وقيل: لا تمنن بالنبوّة، والقرآن على الناس، فتأخذ منهم أجرا تستكثره.
وقال محمد بن كعب: لا تعط مالك مصانعة.
وقال زيد بن أسلم: إذا أعطيت عطية فأعطها لربك.
{ولِربّك فاصبر} أي: لوجه ربك، فاصبر على طاعته وفرائضه، والمعنى: لأجل ربك وثوابه.
وقال مقاتل، ومجاهد: اصبر على الأذى والتكذيب.
وقال ابن زيد: حملت أمرا عظيما، فحاربتك العرب والعجم، فاصبر عليه لله.
وقيل: اصبر تحت موارد القضاء لله.
وقيل: فاصبر على البلوى.
وقيل: على الأوامر والنواهي.
{فإِذا نُقِر في الناقور} الناقور: فاعول من النقر، كأنه من شأنه أن ينقر فيه للتصويت، والنقر في كلام العرب الصوت، ومنه قول امرئ القيس:
أخفضه بالنقر لما علوته

ويقولون: نقر باسم الرجل: إذا دعاه، والمراد هنا النفخ في الصور، والمراد: النفخة الثانية.
وقيل: الأولى، وقد تقدّم الكلام في هذا في سورة الأنعام وسورة النحل، والفاء للسببية، كأنه قيل: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أمرهم، والعامل في إذا ما دلّ عليه قوله: {فذلِك يوْمئِذٍ يوْمٌ عسِيرٌ على الكافرين} فإن معناه: عسر الأمر عليهم.
وقيل: العامل فيه ما دل عليه {فذلِك} لأنه إشارة إلى النقر، ويومئذٍ بدل من إذا، أو مبتدأ، وخبره يوم عسير، والجملة خبر {فذلك}، وقيل: هو ظرف للخبر؛ لأن التقدير وقوع يوم عسير، وقوله: {غيْرُ يسِيرٍ} تأكيد لعسره عليهم؛ لأن كونه غير يسير، قد فهم من قوله: {يوْمٌ عسِيرٌ}.
{ذرْنِى ومنْ خلقْتُ وحِيدا} أي: دعني، وهي كلمة تهديد ووعيد، والمعنى: دعني والذي خلقته حال كونه وحيدا في بطن أمه لا مال له ولا ولد، هذا على أن وحيدا منتصب على الحال من الموصول، أو من الضمير العائد إليه المحذوف، ويجوز أن يكون حالا من الياء في ذرني، أي: دعني وحدي معه، فإني أكفيك في الانتقام منه، والأول أولى.
قال المفسرون: وهو الوليد بن المغيرة.
قال مقاتل: يقول: خلّ بيني وبينه، فأنا أنفرد بهلكته، وإنما خص بالذكر لمزيد كفره، وعظيم جحوده لنعم الله عليه.
وقيل: أراد بالوحيد الذي لا يعرف أبوه، وكان يقال في الوليد بن المغيرة: إنه دعيّ.
{وجعلْتُ لهُ مالا مّمْدُودا} أي: كثيرا، أو يمدّ بالزيادة والنماء شيئا بعد شيء.
قال الزجاج: مالا غير منقطع عنه، وقد كان الوليد بن المغيرة مشهورا بكثرة المال على اختلاف أنواعه.
قيل: كان يحصل له من غلة أمواله ألف ألف دينار.
وقيل: أربعة آلاف دينار.
وقيل: ألف دينار.
{وبنِين شُهودا} أي: وجعلت له بنين حضورا بمكة معه لا يسافرون، ولا يحتاجون إلى التفرّق في طلب الرزق لكثرة مال أبيهم.
قال الضحاك: كانوا سبعة ولدوا بمكة، وخمسة ولدوا بالطائف.
وقال سعيد بن جبير: كانوا ثلاثة عشر ولدا.
وقال مقاتل: كانوا سبعة كلهم رجال، أسلم منهم ثلاثة خالد وهشام والوليد بن الوليد، فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك.
وقيل: معنى {شهودا} أنه إذا ذكر ذكروا معه، وقيل: كانوا يشهدون معه ما كان يشهده، ويقومون بما كان يباشره {ومهّدتُّ لهُ تمْهِيدا} أي: بسطت له في العيش وطول العمر والرياسة في قريش، والتمهيد عند العرب التوطئة، ومنه مهد الصبيّ.
وقال مجاهد: إنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش.
{ثُمّ يطْمعُ أنْ أزِيد} أي: يطمع بعد هذا كله في الزيادة لكثرة حرصه وشدة طمعه مع كفرانه للنعم، وإشراكه بالله.
قال الحسن: لم يطمع أن أدخله الجنة، وكان يقول: إن كان محمد صادقا، فما خلقت الجنة إلاّ لي.
ثم ردعه الله سبحانه وزجره فقال: {كلاّ} أي: لست أزيده.
ثم علل ذلك بقوله: {إِنّهُ كان لأياتنا عنِيدا} أي: معاندا لها كافرا بما أنزلناه منها على رسولنا، يقال: عند يعند بالكسر إذا خالف الحق وردّه، وهو يعرفه، فهو عنيد وعاند، والعاند الذي يجوز عن الطريق، ويعدل عن القصد، ومنه قول الحارثي:
إذا ركبت فاجعلاني وسطا ** إني كبير لا أطيق العندا

قال أبو صالح: عنيدا معناه مباعدا.
وقال قتادة: جاحدا.
وقال مقاتل: معرضا {سأُرْهِقُهُ صعُودا} أي: سأكلفه مشقة من العذاب، وهو مثل لما يلقاه من العذاب الصعب الذي لا يطاق.
وقيل المعنى: إنه يكلف أن يصعد جبلا من نار، والإرهاق في كلام العرب: أن يحمل الإنسان الشيء الثقيل، وجملة: {إِنّهُ فكّر وقدّر} تعليل لما تقدّم من الوعيد، أي: إنه فكر في شأن النبيّ صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن، وقدّر في نفسه، أي: هيأ الكلام في نفسه، والعرب تقول: هيأت الشيء إذا قدّرته، وقدرت الشيء إذا هيأته، وذلك أنه لما سمع القرآن لم يزل يفكر ماذا يقول فيه، وقدّر في نفسه ما يقول، فذمه الله، وقال: {فقُتِل كيْف قدّر} أي: لعن وعذب كيف قدر، أي: على أيّ حال قدر ما قدر من الكلام، كما يقال في الكلام: لأضربنه كيف صنع، أي: على أيّ حال كانت منه.
وقيل المعنى: قهر وغلب كيف قدر، ومنه قول الشاعر:
وما ذرفت عيناك إلاّ لتضربي ** بسهميك في أعشار قلب مقتل

وقال الزهري: عذب، وهو من باب الدعاء عليه، والتكرير في قوله: {ثُمّ قُتِل كيْف قدّر} للمبالغة والتأكيد.
{ثُمّ نظر} أي: بأيّ شيء يدفع القرآن ويقدح فيه، أو فكر في القرآن وتدبر ما هو.
{ثُمّ عبس} أي: قطب وجهه لما لم يجد مطعنا يطعن به في القرآن، والعبس مصدر عبس مخففا، يعبس عبسا وعبوسا إذا قطب.
وقيل: عبس في وجوه المؤمنين.
وقيل: عبس في وجه النبيّ صلى الله عليه وسلم {وبسر} أي: كلح وجهه وتغير، ومنه قول الشاعر:
صبحنا تميما غداة الحفار ** بشهباء ملموسة باسره

وقول الآخر:
وقد رابني منها صدود رأيته ** وإعراضها عن حاجتي وبسورها

وقيل: إن ظهور العبوس في الوجه يكون بعد المحأورة، وظهور البسور في الوجه قبلها، والعرب تقول: وجه باسر إذا تغير واسودّ.
وقال الراغب: البسر استعجال الشرّ قبل أوانه نحو بسر الرجل حاجته، أي: طلبها في غير أوانها.
قال: ومنه قوله: {عبس وبسر} أي: أظهر العبوس قبل أوانه وقبل وقته، وأهل اليمن يقولون: بسر المركب وأبسر أي: وقف لا يتقدّم ولا يتأخر، وقد أبسرنا أي: صرنا إلى البسور.
{ثُمّ أدْبر واستكبر} أي: أعرض عن الحقّ، وذهب إلى أهله، وتعظم عن أن يؤمن {فقال إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثرُ} أي: يأثره عن غيره ويرويه عنه.
والسحر: إظهار الباطل في صورة الحقّ، أو الخديعة على ما تقدّم بيانه في سورة البقرة، يقال: أثرت الحديث بأثره إذا ذكرته عن غيرك، ومنه قول الأعشى:
إن الذي فيه تحاربتما ** بين للسامع والآثر

{إِنْ هذا إِلاّ قول البشر} يعني: أنه كلام الإنس، وليس بكلام الله، وهو تأكيد لما قبله، وسيأتي أن الوليد بن المغيرة إنما قال هذا القول إرضاء لقومه بعد اعترافه أن له حلأوة، وأن عليه طلأوة إلى آخر كلامه.
ولما قال هذا القول الذي حكاه الله عنه، قال الله عز وجل: {سأُصْلِيهِ سقر} أي: سأدخله النار، وسقر من أسماء النار، ومن دركات جهنم.
وقيل: إن هذه الجملة بدل من قوله: {سأُرْهِقُهُ صعُودا} ثم بالغ سبحانه في وصف النار وشدة أمرها فقال: {وما أدْراك ما سقرُ} أي: وما أعلمك أيّ شيء هي، والعرب تقول: وما أدراك ما كذا: إذا أرادوا المبالغة في أمره، وتعظيم شأنه وتهويل خطبه، وما الأولى مبتدأ، وجملة {ما سقرُ} خبر المبتدأ.
ثم فسر حالها، فقال: {لا تُبْقِى ولا تذرُ} والجملة مستأنفة لبيان حال {سقر}، والكشف عن وصفها.
وقيل: هي في محل نصب على الحال، والعامل فيها معنى التعظيم؛ لأن قوله: {وما أدْراك ما سقرُ} يدل على التعظيم، فكأنه قال: استعظموا سقر في هذه الحال، والأول أولى، ومفعول الفعلين محذوف.
قال السديّ: لا تبقي لهم لحما ولا تذر لهم عظما.
وقال عطاء: لا تبقي من فيها حيا ولا تذره ميتا.
وقيل: هما لفظان بمعنى واحد، كررا للتأكيد كقولك: صدّ عني وأعرض عني {لواحةٌ لّلْبشرِ} قرأ الجمهور: {لواحة} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف.
وقيل: على أنه نعت لـ: {سقر}، والأول أولى.
وقرأ الحسن، وعطية العوفي، ونصر بن عاصم، وعيسى بن عمر، وابن أبي عبلة، وزيد بن عليّ بالنصب على الحال أو الاختصاص للتهويل، يقال: لاح يلوح، أي: ظهر، والمعنى: أنها تظهر للبشر.
قال الحسن: تلوح لهم جهنم حتى يرونها عيانا كقوله: {وبُرّزتِ الجحيم لِمن يرى} [النازعات: 36].
وقيل: معنى {لواحةٌ لّلْبشرِ} أي: مغيرة لهم ومسوّدة.
قال مجاهد: والعرب تقول: لاحه الحر والبرد والسقم والحزن: إذا غيره، وهذا أرجح من الأول، وإليه ذهب جمهور المفسرين، ومنه قول الشاعر:
وتعجب هند أن رأتني شاحبا ** تقول لشيء لوحته السمائم

أي: غيرته، ومنه قول رؤبة بن العجاج:
لوح منه بعد بدن وشبق ** تلويحك الضامر يطوى للسبق

وقال الأخفش: المعنى أنها معطشة للبشر، وأنشد:
سقتني على لوح من الماء شربة ** سقاها به الله الرهام الغواديا

والمراد بالبشر: إما جلدة الإنسان الظاهرة، كما قاله الأكثر، أو المراد به أهل النار من الإنس، كما قال الأخفش.
{عليْها تِسْعة عشر} قال المفسرون: يقول على النار تسعة عشر من الملائكة هم خزنتها.
وقيل: تسعة عشر صنفا من أصناف الملائكة.
وقيل: تسعة عشر صفا من صفوفهم.
وقيل: تسعة عشر نقيبا مع كل نقيب جماعة من الملائكة، والأول أولى.
قال الثعلبي: ولا ينكر هذا، فإذا كان ملك واحدة يقبض أرواح جميع الخلائق كان أحرى أن يكونوا تسعة عشر على عذاب بعض الخلق.
قرأ الجمهور: {تسعة عشر} بفتح الشين من عشر، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، وطلحة بن سليمان بإسكانها.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن جابر بن عبد الله أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: إن أول ما نزل من القرآن: {يأيُّها المدثر} فقال له يحيى بن أبي كثير: يقولون إن أول ما نزل {اقرأ باسم ربّك الذي خلق} [العلق: 1] فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، قلت له مثل ما قلت، فقال جابر: لا أحدّثنك إلاّ ما حدّثنا رسول الله قال: «جأورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي، فلم أر شيئا، ونظرت خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فحثيت منه رعبا، فرجعت، فقلت: دثروني فدثروني، فنزلت: {رّحِيمٌ يأيُّها المدثر * قُمْ فأنذِرْ} إلى قوله: {والرجز فاهجر}» وسيأتي في سورة اقرأ ما يدل على أنها أول سورة أنزلت، والجمع ممكن.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس: {يأيُّها المدثر} فقال: دثر هذا الأمر، فقم به.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه {يأيُّها المدثر} قال: النائم {وثِيابك فطهّرْ} قال: لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب باطل {والرجز فاهجر} قال: الأصنام {ولا تمْنُن تسْتكْثِرُ} قال: لا تعط تلتمس بها أفضل منها.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه أيضا.
{وثِيابك فطهّرْ} قال: من الإثم.
قال: وهي في كلام العرب نقيّ الثياب.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضا: {وثِيابك فطهّرْ} قال: من الغدر، لا تكن غدّارا.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، وابن مردويه عن عكرمة عنه أيضا أنه سئل عن قوله: {وثِيابك فطهّرْ} قال: لا تلبسها على غدرة، ثم قال: ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ** لبست ولا من غدرة أتقنع

وأخرج الطبراني، والبيهقي في سننه عنه أيضا: {ولا تمْنُن تسْتكْثِرُ} قال: لا تعط الرجل عطاء رجاء أن يعطيك أكثر منه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عنه أيضا: {فإِذا نُقِر في الناقور} قال: الصور {يوْمٌ عسِيرٌ} قال: شديد.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضا: {ذرْنِى ومنْ خلقْتُ وحِيدا} قال: الوليد بن المغيرة.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل عنه أيضا: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه فقال: يا عمّ إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا، قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، وأنك كاره له، قال: وماذا أقول؟ (فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجنّ، والله ما يشبه هذا الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلأوة، وإن عليه لطلأوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته)؛ قال: والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر قال: هذا سحر يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت: {ذرْنِى ومنْ خلقْتُ وحِيدا}.
وقد أخرج هذا عبد الرزاق عن عكرمة مرسلا، وكذا أخرجه ابن جرير، وابن إسحاق، وابن المنذر، وغير واحد.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن قوله: {وجعلْتُ لهُ مالا مّمْدُودا} قال: غلة شهر بشهر.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس: {وجعلْتُ لهُ مالا مّمْدُودا} قال: ألف دينار.
وأخرج هناد عن أبي سعيد الخدري في قوله: {سأُرْهِقُهُ صعُودا} قال: هو جبل في النار يكلفون أن يصعدوا فيه، فكلما وضعوا أيديهم عليه ذابت، فإذا رفعوها عادت كما كانت.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس: {عنِيدا} قال: جحودا.
وأخرج أحمد، والترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي سعيد، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الصعود جبل في النار يصعد فيه الكافر سبعين خريفا، ثم يهوي وهو كذلك فيه أبدا» قال الترمذي بعد إخراجه: غريب لا نعرفه إلاّ من حديث ابن لهيعة عن درّاج.
قال ابن كثير: وفيه غرابة ونكارة انتهى.
وقد أخرجه جماعة من قول أبي سعيد.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: {صعُودا} صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه.
وأخرج ابن المنذر عنه قال: جبل في النار.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله: {لا تُبْقِى ولا تذرُ} قال: لا تبقي منهم شيئا، وإذا بدّلوا خلقا آخر لم تذر أن تعأودهم سبيل العذاب الأول.
وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا {لواحةٌ لّلْبشرِ} قال: تلوح الجلد فتحرقه وتغير لونه، فيصير أسود من الليل.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضا: {لواحةٌ} قال: محرقة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في البعث عن البراء: أن رهطا من اليهود سألوا بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم، فقال: الله ورسوله أعلم، فجاء جبريل، فأخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنزلت عليه ساعتئذٍ {عليْها تِسْعة عشر}. اهـ.